اللّغة العربية
Volume 5, Numéro 1, Pages 55-81
2003-06-01

من مؤشرات رؤية الاغتراب في القصة القصيرة للكاتب العراقي، عبد الإله عبد القادر - قراءة استكشافية -

الكاتب : عثمان بدري .

الملخص

تمتلك الكتابة الإبداعية، الأصيلة، آليات الإعلان عن نفسها وافتكاك الاعتراف الفني والاجتماعي بها من داخلها قبل خارجها، خصوصا إذا كانت صادرة عن مخيلة جموحة، طموحة، تراهن على الانتصار لمبادئ وقيم ثقافة الاختيار والحرية والعدل وتكافؤ الفرص في الحياة، وهي ثقافة تظل مجرد مشروع وجود، أو مجرد شعارات جوفاء لإرادة منفية، بل لإرادة ظالة ومظلة، ما لم تتحقق في دنيا الناس وتتكامل في السمو بحياتهم المادية والمعنوية والحضارية والروحية، على النحو الذي يستشرف بناء مجتمع الفرص التاريخية والحضارية المتوثبة، الجديدة، أو المسترجعة، "المحينة"، رغم كل المعوقات والتناقضات الطارئة داخليا أو خارجيا أو هما معا. وإذا كان صحيحا أن "الكتابة" الإبداعية ذات المعايير والأعراف الفنية المتواترة، ليست إلا كتابة متولدة عن "الكتابة" و"القراءة"، في المدارات الأقرب أو القريبة أو البعيدة أو الأبعد(1)، فالأصح أن الحجة المرجعية للكتابة، أيا كان نوعها وخصائص قولها، تكمن في مدى انخراطها الفني في إعادة بناء وتفكيك راهنها الاجتماعي والإنساني والفكري والوجداني والحضاري، المجسد بالفعل لا بالقوة في وتيرة الواقع المادي المشهود في حياة هذا المجتمع أو ذاك من موقع المبدع المتميز الذي بقدر ما تقهره ظروف راهنة فينفصل عنه أو يجتث منه، بقدر ما يزداد اتصالا به وتواصلا معه وتجذرا فيه. 2.1 : وتلك هي "المفارقة"(2) (paradoxe) الأثيرة، التي اقترحها علي استغراقي في القراءة الأفقية والرأسية لكل الأعمال القصصية التي نشرت للمثقف، الكاتب العراقي عبد الإله عبد القادر في مجلدين أنيقين، متكافئين في كل المواصفات(3). ولعل أول ما يستوقف القارئ هنا يتمثل في جاذبية وحيوية، وربما في خصوصية إنتاج الكاتب عبد الإله عبد القادر لإطار النوع الأدبي الذي تنتمي إليه أعماله القصصية دون أن تنغلق عليه. فإذا كان مفهوم ومحسوس "القص" أو "الحكي" فطري في الإنسان، وقديم، قدم مساحات وعيه بذاته وبمحيطه وبالحياة والكون عبر فعل القول، بل لعله من أخص خصائص انتظام الحياة اليومية المعهودة في كل زمان ومكان، فإن "فن القصة"، على إطلاقه ومصطلح : "القصة القصيرة"، تحديدا، لم يتبلور ويصقل، ليستقل عن غيره من أشكال القول السردية الأخرى إلا حديثا(4). لكن رغم ذلك فإن "القصة القصيرة" من بين أكثر الأشكال الأدبية عموما وأشكال القول السردي، خصوصا، قابلية لاقتناص "وقع" الواقع الذي تعيد بناءه على نحو حيوي، مركز ومكثف، يقوم على الاختزال في كل شيء : اختزال اللغة، مادة وأسلوبا ووظيفة، اختزال فضاء المكان والزمن والشخصيات، ثم –نتيجة لكل ذلك - اختزال الموقف والرؤية الفنية المقترحة. ولعل هذه الخصوصية الجمالية هي التي جعلت منها ـ القصة القصيرة ـ فنا مراوغا، عنيدا، يستهوي الكثير من التجارب الإبداعية المبكرة، ولكنه لا ينقاد بسهولة إلا للتجارب الإبداعية الفذة المؤسسة التي أوتيت موهبة القول مشفوعة بامتلاك أدوات إنجازه. وغالبا ما نجد أن فرسان القول الذين ثبتوا في هذا المجال وصاروا محل احتكام فيه، هم أولئك المبدعين الذين استطاعوا أن يتمثلوا ويمثلوا أخص الخصائص الجمالية التي تواترت في الشعر والموسيقى وفي مختلف الفنون المكانية، البصرية كالرسم والنحت، وعرفت بها القصة القصيرة باسم: "وحدة الانطباع"، كما ورد ذلك في أشهر تعريف لأحد أبرز معالم الأدب الأمريكي الحديث، وأحد أبرز الأصوات المنفردة في القصة القصيرة (إدجار آلان بو) (5) (Edgar Allan Poe) (1949-1809)، حيث يقول : ((هذا فنان حاذق قد بنى قصة. إذا كان حكيما فإنه لا يشكل أفكاره لتتفق مع حوادثه، بل يبدأ بتصور تأثير واحد معين يريد أن يحدثه، ثم يأخذ في اختراع هذه الحوادث، وربط ما يساعده منها على إيجاد هذا التأثير الذي تصوره سلفا.. وينبغي ألا تكون في العمل كله كلمة واحدة لا تخضع مباشرة أو بطريق غير مباشر "للتصميم الواحد السابق"))(6). ومن قراءتنا الاستشرافية للأعمال القصصية عند الكاتب عبد الإله عبد القادر، نجد أنها تتكامل مع كثير من عمالقة فن القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث والمعاصر، في الاحتكام إلى جماليات القصة القصيرة كما عرفت، نظريا، وإبداعيا عند معالمها الكبار، الأكثر تأثيرا في نشأة وتطور القصة القصيرة في الأدب الغربي الحديث، مثل : (إدجار آلان بو) وشيخ القصة القصيرة في الأدب الفرنسي (جي. دي. موباسان) (Guy De Maupassant) والروسي (أنطوان تشيخوف) لكنها -في الآن نفسه- تستحضر جماليات المخيلة السردية الشرقية في منجزاتها العربية الإسلامية التي تواتر تأثيرها في مدار المخيلة السردية خارج نطاق اللغة العربية، ومن باب أولى، في مدار المخيلة السردية العربية الحديثة. 3.1 : وفي هذا السياق لا يجد القارئ حرجا في استقبال "القصص القصيرة" أو"الأقصوصات الأقصر"(7)، أو - حتى - بعض الأعمال السردية المتأرجحة بين منطق القصة القصيرة ومنطق الرواية(8)، للكاتب عبد الإله عبد القادر، بوصفها حلقات منفصلة ومتصلة معا، إذ بقدر ما تقترح علينا أطرا سردية جزئية خاصة (حالة الانفصال)، بقدر ما تقترح علينا انخراطها في إطار كلي ينتظمها وينظم تناسل رؤيتها للعالم (حالة الاتصال). وهي - باختصار - فن الجزء في إطار الكل، مما يذكرنا بطبيعة ووظيفة ما تواتر نقديا باسم "القصة الإطار" أو : "القصة الإطارية(9)،التي نجد لها منطقا سرديا قائما في العمل الحكائي الشرقي الفذ الذي (بيأته) وأعادت إنتاجه اللغة العربية أثناء العصر العباسي، ببغداد بعنوان : "ألف ليلة وليلة"(10)، بشكل خاص، وفي بعض الأعمال القصصية أو الروائية أو المسرحية في الأدب العربي الحديث، بشكل عام. 4.1 : وإذا كانت الإحاطة بكل مدارات القول في النسيج القصصي للكاتب عبد الإله عبد القادر تبدو متعذرة في مقام قراءة استكشافية، فإن ما يتصدر واجهة هذه الأعمال القصصية، يتمثل في بناء "وحدة الانطباع" بالغربة وبرؤية الاغتراب داخل الوطن (العراق) أو في الفضاء الإقليمي والقومي : (الشارقة - دبي - فاس) الخ، ومن باب أولى في فضاء "المنافي" الاضطرارية، الآسيوية، أو الأوربية، مثل مدينة "ستوكهولم" بالنرويج، على وجه الخصوص. فمن موقع هيمنة هذا المدار الدلالي الالتفافي، تتكامل كل الأعمال القصصية البالغ عددها ثلاثة وتسعين (93) قصة، للكاتب عبد الإله عبد القادر، في اقتراح نفسها على القارئ، كمنظومة سردية متوالدة من بعضها، كما تتوالد الخلايا الطبيعية من بعضها حينا، ومتكاملة فيما بينها، كما تتكامل أجزاء البنية العضوية للجسم حينا آخر. وهي - بهذا وذاك - تتكامل في إدخال القارئ، كطرف مشارك في بلورة قوة اقتراحها لإطار فني مركب لرؤية أشمل مما هو مؤطر جزئيا في خطابها السردي المظهر : رؤية تتسع لفحوى الأصوات الشعرية دون حضور قائليها وللمشاهد الدرامية الجنائزية دون انتظام في معايير البناء المسرحي الدرامي، وللموقف الملحمي و"التعاويذ" الأسطورية دون استحضار ملحمة أو أسطورة بعينها.

الكلمات المفتاحية

عبد الإله عبد القادر؛ المؤشرات؛ القصة القصيرة؛ قراءة استكشافية