مجلة طبنـــة للدراسات العلمية الأكاديمية
Volume 1, Numéro 1, Pages 11-38
2018-12-01

نظام اللغة بين ثنائية الكفاءة والأداء، مقاربة لسانية بين الجرجاني و بعض أعلام الدرس اللساني الحديث

الكاتب : الشريف ميهوبي .

الملخص

: لقد أصبح من المسلم به في الدراسات اللسانية الحديثة، أن دراسة نظم اللغة أو نظامها ( language system) لكي تكون مجدية ومفيدة، لابد أن تقوم على الحد الأدنى من التعبير المفيد، الذي تبدأ منه اللغة في عملية التواصل والتبليغ، ومن خلاله يستطيع المتكلم أن يتواصل مع الآخرين معبرا ومبلغا ومستمعا. وذلك التعبير المفيد هو ما أصطلح على تسميته:"الجملة". فالجملة هي الخلية الحية في جسم اللغة، فإذا كانت اللغة نظاما قارا في الأذهان، فالجملة هي الحد الأدنى من ذلك النظام، وإذا كانت اللغة وسيلة تواصل وتبليغ، فالجملة هي الحد الأدنى لبداية التواصل والفهم والإفهام، وإذا كان الكلام تحققا فعليا لنظام اللغة، فإن الجملة هي نموذج مصغر لذلك النظام الذي يتحقق من خلاله الكلام. وعلى هذا الأساس فإن دراسة الكلام تحتاج إلى وضع تلك الخلية الحية تحت المجهر اللساني لتفكيكها وإعادة بنائها، حتى نتمكن من معرفة هندسة النظام الذي يحكمها، والمادة التي تتكون منها أجزاؤها، والوشائج والعلائق التي تربط تلك الأجزاء، ووظيفة كل جزء في بنائها، وكذلك معرفة جينتها الوراثية (Génique) التي تحدد انتماءها ووظيفتها داخل جسم اللغة. فإذا عرفنا كل ذلك فقد نهتدي إلى نقطة الارتكاز الضوئي التي تساعدنا على تصور لحظة الاقتران بين شكل التعبير ومدلوله، وإن كان ذلك صعب المنال؛ لأن اللغة خصيصى إنسانية محضة، فهي كالإنسان جسم وروح، وإذا استطاع علم الأحياء أو علم التشريح تحديد وظائف الأعضاء في الجسم، فإن ماهية الروح ظلت غيبا، رغم اجتهادات الفلاسفة وعلماء النفس، فلا يعرفون من ماهيتها إلا بعض ما يمدهم به عالم الخبرة والملاحظة من حياة الإنسان. فكذلك اللغة لا نعرف منها إلا الشكل المنطوق الذي يبدأ مع جهاز النطق لدى المتكلم وينتهي إلى أذن السامع. أما ما وراء ذلك فقد ظل شيئا افتراضيا مجردا نلتمس له من الشكل المنطوق ما نلتمسه من تصرفات الإنسان في معرفة العقل أو الروح. فالأمر شبيه بالكهرباء والهواء؛ كلاهما نرى أثرهما ولا نراهما . فالجانب الخفي للغة، والعمليات العضوية والعقلية التي تصحبه، وتدخل مباشرة في تمثيل هذه المعرفة اللغوية، واكتسابها، واستعمالها – أو ما يسميه (تشو مسكي) الكفاءة أو الملكة اللغوية؛ التي هي جزء لا يتجزأ من (العقل/ الدماغ) mind / brain – سيظل البحث عنه قائما، وهذا ما عبر عنه تشو مسكي في كتابه "اللغة ومشكلات المعرفة" حيث يقول: (( فالبحث في هذه المشكلة أمر متروك للمستقبل، وأحد جوانب المشكلة في بحث هذا الموضوع أن التجريب على بني الإنسان مستبعد لأسباب خلقية، فنحن لا نرضى أن يكون الناس موضوعا للتجريب، وهو ما نرضاه للحيوان – سواء أكان ذلك بحق أم بغير حق – ولذلك لا ينشأ الأطفال في بيئة متحكم فيها من أجل أن ترى ما اللغة التي سيكتسبونها تحت ظروف متعددة مصوغة تجريبيا. كما أننا لا نسمح للباحثين أن يغرسوا أقطابا كهربائية في الدماغ الإنساني من أجل أن ندرس عملياته الداخلية، أو أن نفصل أجزاء منه جراحيا لكي نعرف الأثر الذي سينتج، وهو ما يفعل كل يوم في غير الإنسان. فالباحثون مقصورون إذن على دراسة "تجارب الطبيعة" كالجراح والأمراض وغير ذلك. وبسبب ذلك كانت محاولة اكتشاف العمليات التي يقوم بها الدماغ في ظل هذه الظروف صعبة جدا)) ولكنه يرى أن أنظمة (العقل/ الدماغ) الأخرى، ومن بينها، نظام الإبصار لدى الإنسان، مثلا، قد أمدتنا الدراسات التجريبية على الكائنات الحية الأخرى، كالقطط أو القرود، بقدر كبير من المعرفة عنها؛ وذلك لكون تلك الأنواع تبدو متشابهة. أما الملكة اللغوية فبحكم أنها خاصية إنسانية، فلا تمدنا عنها دراسة العمليات التي يقوم بها الدماغ لدى الحيوانات الأخرى، بأي شيء؛ لأنها تفتقد هذه الملكة في الأصل. فالسؤال عن ماهية اللغة أزلي حير الفلاسفة والعلماء منذ القديم، وما زال يلقى بظلاله على الدرس اللساني الحديث، وإن اختلف شكل السؤال ونمط الإجابة من عصر إلى عصر، فإن نظرة الجميع إلى اللغة تكاد لا تخرج عن هذه الثنائية التي ظلت قائمة؛ وهي: "شكل – مضمون"، أو "تعبير لغوي – قضية منطقية أو مفهوم أو فكره"، أو "لفظ – معنى" أو "دال – مدلول"، أو "لغة– كلام"، أو" كفاءة – أداء ". وقد تعددت المدارس وتنوعت، وتباينت آراء الدارسين في تناول اللغة وفقا لهذه الثنائية. فإذا كانت الأنحاء القديمة قد تبنت النظرة الفلسفية و المنطقية في تفسيرها للغة، وكانت معيارية، فإن الدراسات اللسانية الحديثة قد تبنت النظرة العلمية في دراستها للغة، وحاولت أن تحصر ذلك في الجانب الشكلي بحكم اقتضاء المنهج العلمي له. وعرفت دراسة اللغة هذا التحول مع – دي سو سير – والمدارس اللغوية التي ظهرت بعده في أوروبا وأمريكا، وتبنت أفكاره ومبادئه في تركيزها على الجانب البنيوي للغة، كما فعلت مدرسة "براغ" ومدرسة "كوبنهاجن" والمدرسة البنيوية السلوكية في أمريكا التي تزعمها – بلومفيلد – وأتباعه، وقد بالغت تلك المدارس في الجانب الشكلي. وقد دفع ذلك – تشو مسكي – والتوليديون التحويليون عامة، إلى إعادة النظرة العقلية والمنطقية إلى دراسة اللغة، لأن اللغة نتاج العقل ولا تدرس إلا في نطاقه. وقد انعكست تلك النظرة إلى اللغة، وتلك الثنائية، على التعاريف والمفاهيم التي أعطيت للجملة بوصفها نمطا مصغرا للغة والكلام، وصورة لفظية دنيا للفهم والإفهام، ولصعوبة وضع معايير ضابطة لتلك المعرفة الحدسية،فقد بلغت تلك التعاريف أكثر من مائتي تعريف مختلف، بل بلغت في اللغة الإنجليزية وحدها أكثر من ثلاثمائة تعريف. ومهما اختلف الدارسون في تعريفهم للجملة وفهمهم لها، فإنهم يكادون يتفقون في النظر إليها وفق معياري الشكل والمضمون، منذ أقدم تعريف لها إلى أحدث تعريف. وتلك الثنائية هي التي انطلق منها البلاغيون العرب، وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني، في دراستهم لنظم العربية، وقد جسّدوا ذلك في تناولهم للجملة؛ حيث أوْلُوها أهمية كبرى، وكانت دراستهم لها تقوم على المعاني النحوية، وفق مستويين؛ مستوى المعاني ومستوى الألفاظ، وكان المستوى الأول في رأيهم هو المحرك للعملية الكلامية، وهو ما ينبغي أن يُبحث عنه وراء الأشكال أو التراكيب اللغوية، وقد كانت لهم نقاط التقاء مع ما جاءت به الدراسات الحديثة. وهو ما تحاول أن تكشف عليه هذه الدراسة، ولا تدعي لنفسها فضل السبق، فهي مكملة لجوانب أضاءها عدد من الدارسين المحدثين في فكر الجرجاني وعلاقته بالدرس اللساني الحديث.

الكلمات المفتاحية

نظام اللغة - الكفاءة اللغوية - الأداء الكلامي - الجملة - البلاغة العربية- اللسانيات - ثنائية - الشكل اللغوي.