قضايا الأدب
Volume 4, Numéro 1, Pages 165-185
2019-08-20

ادب الكدية في العصر العباسي

الكاتب : رابح بودية .

الملخص

رابح بوديّة طال ب دكتوراه سنةثالثة قسمالآدا ب واللّغةالعربيّة كلّيةالآداب واللّغات ا لشّرقيّة جامعةالجزائر2. أبوالقاس م سعدالله. ملخّص يتناول هذا المقال نوعًا من أنواع الأدب؛ جاء ردّة فعل لما كان يعيش فيه المجتمع العبّاسي من فقرٍ وحرمان واظطهادٍ؛ ممّا أدّى إلى ظهور، مجموعة من الأخلاق والعادات غير السّويّة والمذمومة؛ كالتطفّل والكدية. وقد أنتجت هذه الظّاهرة أدبًا خاصًّا التصق بها مصطلحًا ومفهومًا. أطلق الدّارسون والباحثون عليه: أدب الكدية. Abstract This report is about a kind of literaturethat came as a reactionof how Abbasicommunitywas living in terms of poverty,deprivation,and persecutionwhichled to appearance of severalbadethics and habits such as intrusion, and cadillac. This phenomenoncreatedaliteraturewhichscholars gave itthe concept of Cadillac literature. مقدّمة: مقدّمة: منذ أن دأبت أقلام الكتّاب والمؤرّخين على تدوين الأدب العبّاسي؛ باعتباره الأدبالأكثر تداولاً، مقارنةً بما سبقه من الآداب، وُجّه جُلّالاهتمام نحو أدب المركز، حيث ألّفت فيه المصنّفات والمكدّسات غير المتناهية على الإطلاق. وإذا نظرنا إلى هذه المصنّفات بعين الباحث البصير، نجد أن أغلبها تناولت شعراء وأسماء شعرية؛ كان لها حضور قويّ وبارز في السّاحة الأدبية في ذلك الوقت، على غرار المتنبّي، وأبي نوّاس وابن الرومي، وأبي العلاء، وغيرهم من الشّعراء الذين كُتب لهم المجد والبقاء. وإذا أزحنا النظر عن مضمون هذه المؤلّفات، و بحثنا في ثناياها وهوامشها، نجد أنّ هناك بعضا من الشعراء قد ذُكروا على استحياء في هوامش هذه الكتب،كون أن شعر هؤلاء الفئة لم يلق تلك الشهرة التي لقيَها أدب شعراء المركز؛ بسبب أنّ هؤلاء الشّعراءانتهجوا عادات وأخلاقا مذمومةوغير سوية؛ من أجل تحصيل رزقهم المعيشي، وإيجاد قوتهم اليومي فتكسّبُوا بالشّعر وتسوّلوا به،فسمّوبشعراء أدبالكدية،أو بمصطلح آخر: شعراء أدب الهامش، أو شعراء أدب القاع الاجتماعي. 1) مفهوم الكدية: أ-الكدية لغة: لم تختلف أغلب المعاجم العربية حول مضمون هذه المفردة، حيث أرجعها أغلبهم إلى الفعل كدَّى، و مصدره الكدية والتي تعني الشيء الغليظ الكثيف الصعب المنال، يقول ابن فارس: _ في معجمه_: الكاف والدّال والحرف المعتل أصل صحيح يدلّ على صلابة الشيء ثم يقاس عليه «والكدّية صلابة تكون في الأرض، يقال: حفر فأكدى إذا وصَلَ إلى الكدية ثُم يقال للرجلُ إذا أعطىيسيرًا ثم قطع أكدّى شُبّه بالحافر يحفر فيمسك عن الحفر. وزعم الخليل أنه يقال أصابت رَوْعهم كادئة وهو البردُ وأصاب الزرع بردًا وكَدأة ًأي رَدهُ في الأرض، ويقال أكديتُه أُكديةً إكداءً إذا رَدّدَتُهُ عن الشيء والقياس في جميع ما ذكرناه واحد».( ) ويذهب ابن منظور المذهب نفسه؛ فيقول -متبعًا هذا المفهوم-:«كَدَت الأرض تكدُ كدْوًا وكدُّوًا، إذا أبطأ نباتها، وكدّا الزرع وغيره من النبات ساء نبتُهُ، والكدّية والكادية الشّدة من الدَّهْرِ، والكدّية الأرض المرتفعة وقيل هي شيءٌ صَلْبٌ من الحجارة والطين، والكدّية الأرض الغليظة»( ). ب- الكدية اصطلاحا: يبقى المعنى الاصطلاحي هو المحَدِّد الوحيد لدلالة أي مفهوم غير متداول في الخطاب الأدبي، ولهذا فإن جميع التعاريف تكاد تُجمع أن لفظة الكدية تعني التسوّل والاستجداء وسؤال النّاس، وعليه فهي «حرفة السائل الملحّ».( ) وقد تخرج الكدية عن معناها اللفظي فتتداول في الخطاب الأدبي عموما على مفردات أخرى، مثل الكدّاشة حيث جاء في لسان العرب مادة (كدش) قوله: « والكدَّاشُ المكدي بلغة أهل العراق وكدَش لِعياله يكدش كدشًا: كسب وجمع واحتال وهو يكَدِّشُ لعيَاله، أي؛ يَكْدَحُ، ورجُلٌ كَدّاشٌ»( ).وعليه: «فالمكديُون هم تلك الطائفة التي جعلت الاستجداء والتكسّب المشوب بالحيلة معبرها للوصول إلى مآل الآخرين»( )، وإذا كان التّسول ظاهرة اجتماعية فردية إنسانية لا غرار عنها، وحيثما وجدَ الغنى الفاحش، وجد الفقر المدقع، وحيثما قومٌ يعيشون في ترف وثراء وُجد قومٌ يعيشون في العراء، فإنّ التسوّل هو نتيجة حتمية لمجموع الثنائيات، التي تحكم نظام الكون بصفة عامة. ولهذا فإن المتتبّع لمسار هذه اللفظة يلاحظ أن ظهورها كان موازيًا للعصر العباسي، غير أنّ هنالك بعض المفردات ظهرت موازية لها، ولهذا يقول أحمد حسين:«لم يكن مصطلح الكدية المصطلح الوحيد الذي يطلق على حرفة السّؤال، فقد ظهرت إلى جانبه مفردات أخرى، هي الشحاذة وأصبحت أكثر رواجًا في الاستعمال»( ). ويعد الجاحظ أوّل من تطرق إلى هذه اللفظة أثناء حديثه عن خالد بن يزيد، يقول: «وهذا خالد بن يزيد وهو خالويهالمكدّي كان بلغ في البخل والتكدية لم يبلُغهَا أحدٌ»( )، ويستطرد الجاحظ فيذكر وصية خالد بن يزيد لابنه التي جاء فيها قوله: «إنّ هذا المال أجمعه من القصص والتكدية»( )، كما يصف خالويه مستطردًا في حديثه قائلاً: «أنا لو ذهب مالي لجلست قاصًا أو طفقت في الأفاق كما كنت مُكديا»( )، ولهذا نجد أن هذه اللفظة قد اقترنت بالمفهوم الجاحظي الذي يعدّ من أوائل الدّارسين؛ الذين تناولوا أدب هذه الفئة المهمّشة التي عاشت حالات الفقر والبؤس الشديد، فرأت في الكدية المخرج الوحيد لها من هذه الوضعية المزرية. وإذا كان الجاحظ أوّل من تطرّق إلى هذه الفئة.فإنّ كتابه حول هذه الفئة ضاع ولم يصلنا ولو وصَلنا لعرفنا الكثير حول أدب هذه الفئة، ولهذا سنذكر ما أوردَهُ الجاحظ من أصناف لهذه الفئة في طيّات كتُبه؛ كالبخلاء وغيرها وهم: «الكاغاني، القرسي، المشعَّبْ، الفلَّوْر، الكاخان، العواء، الإسطيل، المزبّدي، المستعرض، المخطراني، البانوان، المقديسي، المكدّي، الكعبي، الزكوري»( )، وهم أضعاف ما ذكر الجاحظ، أما الكاغاني فيقول فيه الجاحظ:«هُو الذي يتجنّنْ ويتصارع، ويزيد حتى لا تشكّ أنّه مجنون، لا دواء له لشدّة ما ينزل بنفسه، وحتّى يتعجّب من بقاءِ مثلهِ على مثل عِلّته»( ). أمّا القُرسيّ «الذي يعصب ساقه وذراعه عصبًا شديدًا ويبيت على ذلك لَيْلَة، فإذا تورّم واختنق الدّم مسحه بشيء من الصّابُون»( )، أما المشعّب «فهو الذي يحتالُ للصّبي حين يولد بأن يعميه أو يجعله أعسم أو أعضد ليسأل الناس به أهله». أما الكاخان فهو «الغلام المكدي إذا واجز وكان عليه مسحة من جمالٍ».( ) ولهذا فقد اعتنى الجاحظ بذكر أصنافهم وأنواعهم سواء في كتاب البخلاء؛ الذي أورد فيه جلّ أصنافهم، أم في كتاب الحيوان الذي ضمّنه أصناف هؤلاء الفئة المهمّشة. وقد أصبحت لفظة الكدية حرفة يقوم بها الأديب أو غيره من مجموع العامّة، ليس من أجل كسب القوت اليومي، وإنّما من أجل جمع أكبر ما يمكن من الدّنانير،فقد أصبحت هذه اللفظة مستساغة إلى درجة أنّ الأولياء في ذلك الزمان اتخذوها وصية لأبنائهم. ومن ذلك ما أوصى به السروجي ابنه قائلاً :«ولم أر ما هو بارد المنعم، لذيذ المطعم، وافي المكسب، صافي المشرب، إلا الحرفةَ التي وضع "ساسان" أساسَهَا، ونوّع أجنَاسَها، إذ كانت المنجز الذي لا يبور والمنهل الذي لا يغور».( ) كما نجد الشاعر المكدّي الأحنفالعكبري، يعترف أنّ الكدية أصبحت مصدر رزقه وأنّ النّاس يشاركونه في هذه المهنة الخسيسة يقول:( من البسيط) قد كانـــــــت الكــــــدية إقطـــاعي فاستعصم النَاسُ بأطباعي قنعت مضطرًّا لضعف القوى على نيل مَا يدركه السّاعي.( ) ويقول أبو دلف في قصيدته الساسَانية(من الهزج): ومن كدَّ على كَيْسان في السِرِّ وفي الجهرِ( ) كما تباهى ابن الحجاج البغدادي بخروجه المبكر إلى الكدية والتسوّل قائلاً: وقَد تنَاهَى أمري إلى أن بَكَرْتُ مِنْ منزلي أكْدِي( ). وعليه فإن المتأمّل الواعي في مسار هذه اللفظة، في مجموع العصور الأدبية يلاحظ من الوهلة الأولى أنّ هذه الظاهرة كانت ضيّقة النّطاق، وإن وجدت فإنها تبقى مجرد تشذيرات طفيفة.ولهذا فإذا صوّبنا اتّجاهنا إزاء هذه الظاهرة في العصر الجاهلي فإنّنا لن نرى فحوى هذه الظاهرة ولا صورة لأدبها في شعر الجاهليّين أو نثرهم. ولهذا فإذا تأمّلنا مجموع القصائد الشعرية؛ كالمعلّقات ونحوها، فإنّنا نراها تعالج مواضيع الفرد الجاهلي في تلك الفترة؛ كعبثيّته ولهوه وإسرافه في شرب الخمر، ولم تتجه في إبراز الوضعية الاجتماعية لحياة الفرد في تلك الفترة، كونها حياة بسيطة تعتمد على تتبّع الكلأِ والزرع أينما حلّ، ولهذا يقول عبد الهادي حرب: «لن نرى صورة للتسوّل ولا أثر له في شعر الجاهلية، كالمعلّقات ونحوها، ولافي ما وصل إلينا من خطب الجاهلية»( )، لأنّ أدب الجاهلية كان تصويرا لنمط الحياة في تلك الفترة. ولعلّنا يمكن أن ندرس مضامين أدب الكدية وطابعها الاجتماعي في العصر الجاهلي في مفهوم أدب التكسّب، هذا الأخير الذي انتشر في هذا العصر دون غيره والذي حاول - من خلاله- معظمُ الشعراء أن يكسبوا مبالغ مالية، أو بعض الهبات والعطايا، وذلك من خلال قصائدهم المدحية لمختلف الحكّام والملوك، ولهذا يقول جلال الخياط : «والشّعراء ينقسمون إلى فريق رفض أن يمدح، وفريق صدر في أماديحه عن عاطفة صادقة، وكان المديح عنده نوع من الالتزام السّياسي أو الديني، وهؤلاء لا علاقة لهم بالشّعراء المتكسّبين؛ الذين نافقوا وزيّفوا الوقائع، وبالغوا كثيرًا ليحصُلوا على المال»( ). وعليه فإن جلال الخياط يرى أن معظم الشعر الصّادر عن مجموع الشعراء المتكسبين هو شعر مزيف صادر عن عاطفة كاذبة؛ هدفُها الأوّل والأخير اقتناص الدريهمات من الملوك والحكّام. ولذلك فإنّالاختلاف بين الشّاعر المتكسّب وأصحاب الكدية؛ أنّ نفسية الأوّل وشخصيته شخصية أبية، أما شخصية المكدّي شخصية دنيئة رضيت بالصّدقات؛ التي تمنحها لها العامة. ولعل المتأمّل الواعي في مسار الخطاب الشعري –عمومًا- يلاحظ وجود فئة شعرية تقترب مع فئة الشعراء المكديّين؛ هذه الفئة التي تسمّى فئة الصّعاليك؛ التي سكنت الفيافي والقفار وخرجت عن نظام وبوتقة القبيلة، واتّخذت من السلب والنهب غايتها. وإذا كان الصّعلوك في الاصطلاح: «هو ذلك الفقير الذي يتخذ من اللصُوصية وقطع الطريق وسيلة للكسب بعد أن خلعته قبيلته أو بعد أن خرج على عرف الجماعة»( )، وإذا كان– كذلك - كلّ من الصّعلوك والمكدي يطلب المال وينبذ الفقر فإنّ حالة طلب المال وحصوله عليه تختلف فيما بينهما، ولهذا يقول صلاح الشهاوي موضّحًا الفرق بين الصعلوك والمكدي بقوله:«والفرق بين الشعراء الصعاليك والشعراء المكديين أنّ الشعراء الصعاليك يبسطون يدهم قوية عزيزة، بينما الشعراء المكدين فبسطونها ذليلة خاضعة»( )، وهذا دليل واضح على الاختلاف الحاصل بين الفئتين لأنّ المعروف عن الشّعراء العرب في الجاهلية، وخاصّة الشّعراء الصعاليك، أنّهم يفضلون الغزو والنّهب على أن يمدّويدهم لسؤال النّاس، وفي لامية الشنفرى يظهر هذا التوجه في أصدق تعبير بقوله: وأسُفُ تراب الأرض كي لا يُرى له عليّ من الطول امرؤ متطوّل ولولا اجتــذابُ الذام لم يلــق مشــــرب يعانــــــي به إلا لـــــــــــديّ و مأكل ولكــــــــنّ نفــــــــسا حـــــــــرة لا تقيــــــــم بي على الضيم إلا ريثما أتحوّل( ) إذا فهذه صورة واضحة، رسمها الشنفرة في وصف الشعراء الصعاليك؛ الذين يفضّلون سفّ تراب الأرض على أن يسألوا الملوك والحكام. 2) مضامين أدب الكدية: يندرج أدب الكدية تحت أغراض عديدة ومضامين متنوعة،غير أنّ غرض الوصف والشكوى والكدية من أهم الأغراض الشعرية السائدة في مضامين هذا الأدب. لقد برز الوصف كظاهرة واضحة في ثنايا أدب هذه الفئة،واتّخذهمعظم هؤلاء الشعراء وسيلة لتبيان فقرهم وجوعهم اليومي، من ذلك ما أورده الأحنف العكبري وهو يصف نفسه وبؤسه وقلة ماله قائلا [من الخفيف]: عشت في ذلة وقـــــــــلة مال واغتراب في معشر أنْذالِ بالأماني أقول لا بالمعاني فغـــــذائي حــــــــــلاوة الآمــــال( ) ويقول ابن الحجاج يصف فقره ويصور حالته:( من الخفيف ) أصبحت أفقر ممن يروحُ ويغتدي ما في يدي من فاقة إلاّ يـدي في منـــزل لم يحــــــــو غــــــــير قـــــــــادر فإذا رقدت رقـــــدت غير ممـــدّدِ لم يبق فـيه سوى رسم حــــصيرة ومخـدة كانـــــــت لأم المهتـــدي هذا ولـــــــــي ثــــــــــوب تــــــراه مـــــــــــرقّعًا من كل لون مثل لون الهدهد( ) ويصوّر أبو الشمقمق مأساته وفقره وجوعه وبيْته المكفهر البسيط قائلاً:[من الكامل]: ولقد قلت حين أحجـــــرني البَرْدُ كما يحجر الكــــــلبُ ثُعــــــَالة في بيـــت من الغــــــظارة فقـــــــر ليس فيه إلا النّوى والنخالة عطلته الجرْذانُ من قلة الخير وطـــار الذبـاب نحو زبــــــــالة.( ) ويعد أبو فرعون السّاسي أحد أعظم الشعراء الذين برعوا في وصف أحوالهم التّعيسة الفقيرة الدنيئة، ومن ذلك قوله-يصف عُرى أبنائه وتغير لونهم من كثرة البكاء على الطعام وشعورهم بالجوع الشديد- من [البسيط]: و صبية مثــــل فـــــُراخ الــــــــــدّر سود الوجوه كســــــــواد القـِدر جاء الــــــشتـــــــــــاء وهـــــم بِشــــر بغير قمــيص وبغـــــــــير أزْر تـراهم بــــــــــــعد صلاة العـصر كأنهم خنافيس في جُـــــــحر وبعضهم من منحجز بحجري لا أسبقــهم إلى أصول الخدر كنيت نفسي كنية في شعري أنا أبو الفـــــقـــــــر وأمّ الفـــــــقـر( ) ويصف ابن الأعمى منزله البسيط؛ الذي لا يصلح للسّكن قائلاً : دار سكنتُ أقلّ بها صفاتها أن تكثر الحسرات من حشراتها من بعض ما فيها البعوض عدمته كم أعدَمَالأجفانُ طيب سباتها وبـــــــــها خفــــــــــــافيش تطــــــــــير نهـارها مع ليلها نبــــش على أعـــــــدائها( ) لقد تجرع أغلب شعراء هذه الفئة غصاصة الزمان وحرمانه لهم من أغلب الأشياء المادّية، ولهذا نجد الشكوى غرضابارزا في أغلب قصائدهم، ومن ذلك قول ابن سكرة الهاشمي يشكو آلامه وتفجعه ( من الكامل ): أرى حُــــللاً ودبيــاجاً حـــــــسانــــــا فألحظها بطرف المســــتريب وأعــــــــرف قصّـتي وأرد طــــــــرفي وفي قلبي أحرّ من اللهيب جنبي نسيبي على رصد رزقي و أثكلني من الدنيا نصــيبــــــــي( ) وقال ابن الحجاج في شكوى حالهِ و سوء حاله ( من الرجز ): سألتَ يا مولاي عن قصتي وما اقتضى بالرّسم إجلالي ليست بجسمي علةٌتُشـــكىو إنـّــــــــما العــــــــــلة فـــــــــي حــــــالي وذلك داء لم يزل ضامنا من سقيمه بريء إبلالي.( ) وقال ابن الحجاج يشكو قلة غذائه ومؤونته : (من البسيط ) قد قنعنا فهات خبزا بلا لحم أنا من شدة الخوى في السياق فأرجوأن أشمّ رائحة اللّحــم ولـــــــو كـــــــان مــــــــن مشــــــــي راق ( ). وقال يشكو قلة غذائه وفقره وجوعه ( من الوافر ): أتعـــــــــشـّــــى بغـــــــــــيــــــر خــــبــــــــــز وهذا خبزي منذ مدة في غذائي فأنا اليوم من ملائكة الدّولة وحـــــــــدي أحــــــيابغــــــــــير غــــــــــذائي.( ) أما لفظة الكدية أو التسوّل؛فإنّنا نجدها بكثرة في شعر هذه الفئة، حيث نجدهم يسألون الحكام والملوك أغلب الأشياء وحتى البسيطة منها، لهذا أوردأغلب شعراء هؤلاء الفئة لفظة الكدية في حدّ ذاتها،أو أوردوا معان مشابهة لها. يقول أبو دلف في قصيدته الساسانية يصف طائفة المكديّين ( من الهزج ): ومن كدّى على كيسان في السّر وفي الجهرِ.( ) ويقول ابن الحجاج يتباهى بلفظة الكدية( من الوافر): وقد تناهى أمريإلىأن بكرْتُ من منزلي أُكدّي.( ) ويذكرالأحنف العكبري أنّ الكدية أصبحت مصدر رزقه، وأنّ النّاس يشاركونه في هذه المهنة . ومن ذلك ما قاله( من البسيط ): قد كانت الكــــــــــدية إقطــــــــــــاعي فاستعصم الناس بأطباعي قنعتُ مضطرًا لضعف القوى عن نيْل ما يدركه الســاعي( ). ويذهب ابن سكرة الهاشمي في هذه المقطوعة إلى الافتخار بنسبه إلى أ صحاب الكدية، وأنه مضطر إلى بيع دينه مقابل رغيف خبز يقول ( من الرجز ): رسالة من مكد وشاعر وشربـف إلى فتى مستبدٍّ بكل فعل ظريف ولو أسامُ بديني لبعته برغيف.( ) وقد تظهر الكدية في الخطاب الشّعري لهؤلاء بصفة غير مباشرة، ويلصقها الشاعر صفة التّهكم والسخرية، وبعض من الفكاهة المربوطة والمقرونة بشيء من الحمق، و من ذلك قول ابن الحجاج البغدادي يكدّي من أحد الحكماء عمامة يقول : ( من البسيط) يا من له معجزات جُودِ توجب عنــــدي لـــه الإمــامـــــة مالي إذا الشمال هبّــت قامت علــــى رأســي القيــــــــامـة ونمت في القفا عـيون بالطول في موضع الحجامة أظن هذا من أجل أنّيفي البرد أمشي بلا عمامة.( ) ونجد الشمقمق يسأل ويطلب الخبز؛ باعتبار أنّه قوته الضروري، ولا يجد بديلا عنه يقول ( من الهزج ): ما جمع النّاسُ لدنياهم أنفع في البيت من الخبز وقد دنا الفِطر وصِبيتناليســــــــــوا بــذي ثمـــر ولا أرز.( ) ويسأل ابن سكرة الهاشمي رغيف خبز يطرد به جوعه ويسدّ به رمقه؛ في قوله( من البسيط): الجوع يطردُ بالرّغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي والموتأنصف حين عَدَّ لَه قسمة بين الخليفة والفقر البائس.( ) وقد عمد الشاعر أبو دلف الخزرجي إلى تدوين أصناف المكديين وطرقهم وكيفية ممارسة هذه المهنة الخسيسة، وهذه القصيدة أوردها الثعالبي _فقط_ في كتابه يتيمة الدّهر؛ والتي مطلعها ( من الهزج): جفون دمعها يجري لطول الصدّ والهجر وقلـب تــــرك الوجــدُ به جمْرا على جمــــر إلى أن يبدأ في عرض أصناف المكديين فيقول : فنحن الميــزاقانيون() لااندفع عن كبــر همُوا شتى فسلني عنـــ هُم ينبئك ذو خبــر ومنّا الكـاغوالكاغـــة() والشيشق في النحر.( ) وقد ضمّن أبو دلف الخزرجي في قصيدته هذه جميع أصناف المكديين، وبهذا سمّاها عبد الهادي حرب معلقة المكديّين. وإذا كان للكدية، ظهور خافت وباهت في الشّعر العبّاسي، فإنّها في النّثر العباسي قد صُبّت وجاءت في جنس نثري جديد لم يعرفه الدّارسون قبل هذا العصر، ونقصد بذلك فنّ المقامات؛ الذي أسّسه بديع الزمان الهمذاني، وحذى حذوه أبو القاسم الحريري، راصدان به واقع هذه الظاهرة التي انتشرت بسرعة البرق بين ثنايا المجتمع العبّاسي، وبهذا أصبحت المقامات مسرحا ساخرا يصوّر تمرد هذه الطائفة وثورتهم وحيلهم العديدة، في أسلوب فكاهي ساخر يجمع فيها الشعر والنثر معا. 3) الكدية في أدب المقامات : تعد ّ المقامات مسرحا ساخرا يصوّر تمرّد طائفة المكديين، وثورتهم وحيلهم العديدة حيث يجتمع فيها الشّعر والنثر معا بأسلوب أدبيّ رائع، ولهذا «فالمقامة شكل من أشكال القصة العربية يرويها راو واحد، يتحدث فيها عن مغامرات بطل واحد رئيسي في الكدية والاستجداء والسعي إلى الرزق، متسلّحًا بفصاحة لسانه وسعة ثقافته واستلابه بعقول سامية، عن طريق ما يجود به عليهم من سحر الكلمة شعرا ونثرا».( ) ومن أصحاب المقامات في العصر العباسي بديع الزمان الهمذاني والقاسم بن علي الحريري؛ اللّذان أفادا من كتب الجاحظ؛ كالبخلاء وغيرها، باعتباره أول من تناول موضوع المكديّين، وقد أنشأت أغلب المقامات في وصف التسوّل والاستجداء، يقول الثعالبي:«إن المقامات كانت جلّها في الكدية».( )وقد احتضنت المقامات هذه الظاهرة بنظرة يتقاسمها السخرية والتهكم في أغلب فتراتها، وبهذا فإنّها قد اعتنت بهذه الظاهرة من باب التغليب، لا من باب الاختصاص. ولهذا جاءت المقامات متأثّرة بشعر شعراء الكدية، وسجّله الحريري وبديع الزمان في مقاماتهما على حدّ سواء. أ‌- الكدية في مقامات الهمذاني : لقد جعل الهمذاني أبا الفتح الاسكندري بطلا لكل مقاماته، وجعل عيسى بن هشام راوية لهُ في هذا الفن، ولهذا فإذا نظرنا إلى مجموع هذه المقامات نجد أن الهمذاني قد لوّن أبا الفتح الاسكندري بعدّة شخصيات،وأعطى له في كل مقامة صبغة محدّدة ، حيث نجده –مثلا - في القُريْضية جعله رجلا يستأجر غلاما وصبية، ويزعم أنهمأولادهُ وأنهميتضاوون من شدّة الجوع، وقلّة الطعام وأنّ وراءهم امرأة تنتظر أن يرجع إليها هذا الزوج بشيء من الطّعام، ولهذا جعل الهمذاني،أبا الفتح الإسكندري يطلب الإحسانإليه بالشّعر، فينشد شعرا في الكدية والتسول قائلاً : يا قوم قد أثقل ديني ظهري وطالبتني طليلتي بالمهر أصبحت من بعد غنى ووفر ساكن فقر وحليف فقر يا قـوم هــــل بينـــكم من حرّ يغنيني عن صنوف الدّهر ياقوم قد عِيل لفقر صبري وانكشف عن ذيول الستر.( ) ولهذا يضرب أبو الفتح الإسكندري على وتر قلوب النّاس وعواطفهم؛ فيجعلهم يبكون لفقره الشديد فيعطونه ما لديهم. وعليه فقد أعطى بديع الزمان الهمذاني لأبي الفتح الإسكندري في كل مقامة من مقاماته صورة اجتماعية واقعية، يُحاكي فيها المجتمع العبّاسي - في تلك الفترة- الذي عاش في القرن الرابع الهجري ويلات الفقر والبؤس والاضطهاد، ممّا دفع أغلب الناس إلىاتّباع هذه الحرفة الذميمة. ب- الكدية في مقامات الحريري: لم تختلف مقامات الحريري عن مقامات بديع الزمان الهمذاني إلا في بعض النّقاط حين كان الموضوع العام لهذه المقامات الكدية والتسوّل، ولهذا فقد عمد الحريري إلىإعطاء أبو زيد السروجي في هذا الفن خصائص وأوصاف عديدة ، وأشكالا مختلفة، ولهذا يقرّ عبد الهادي حرب أن مقامات الحريري، ما هي إلا محاكاة لمقامات الهمذاني، إذ يقول:«حين نقرأ المقامات نرى نماذج للكدية واضحة لا تكاد تختلف في جوهرها،وإذ كانت تختلف في مظاهرها».( ) ولهذا نجد الحريري قد نوّع في أساليب الكدية في مقاماته حيث اعتمد على خاصّيتي التوضيح والتّلميح، فبعض المقامات لا يذكر فيها الحريري الأسباب التي تجعل أبو زيد السروجي لا يستجدي بطريقة مباشرة، وإنما يظهر فيها هذا الأخير في شكل أشعث أغبر، يُعرف أنه سائل من خلال النّظر إليه فقط، كما يتّضح ذلك من كلامه. وعليه فقد اختلفت أصناف وصوّر الكدية في مقامات الحريري، وبديع الزمان الهمذاني، إلاّ أنّ الهدف واحد؛ وهو رصد تلك الظواهر السمجة التي كان يعاني منها المجتمع العبّاسي في تلك الفترة، غير أنّنا لا يمكن أن نستثنيأنّ المقامات كان جانبها الأول تعليمي، والثاني نقدي تهكّمي، ولذلك فإنّأدب الكدية في العصر العباسي يعد ّ مظهرًا من مظاهر الحياة الاجتماعية للعصر العباسي. خاتمة: بعد استعراض أهمّ ظواهر أدب الكدية في العصر العبّاسي، وصلنا إلى النّتائج الآتيّة : 1- الكدية ظاهرة اجتماعية نشأت في العصر العباسي انطلاقا من القرن الرابع هجري، وكان لها تشذيراتأوّلية تمثّلت في أدب التكسب وأدب الصعلكة. 2- يُعد الجاحظ من أوائل الدّارسين؛ الذين تطرّقوا لأدب هذه الفئة، حيث أثبت خمسة عشر نوعا، غير أنّ الجاحظ عَدّ أصحاب هذه الفئة من المحتالين، ويتّضح هذا من تلك العاهات التي صوّرها فيهم. 3- يدور أغلب شعر شعراء الكدية حول وصف الحياة التّعيسة؛ التي تعيشها هذه الفئة، والتي دفعتهم إلى اتخاذ هذه الحرفة الذميمة. 4- المقامة فنّ أدبي يتزاوج فيه الشعر والنثر معا، بأسلوب تهكّمي، جاءت من أجل رصد هذه الظاهرة، وتصحيح مفاهيمها وإظهارأنماطهاوأشكالها وصورها 5تعد المقامات مسرحا كوميديا من خلال مجموع الافعال التي تبعث على السخرية من اوضاع المجتمع العباسي تجسدنها مجموع الحيل التي يتصنعها بطل المقامة 6 تحتوي االمقامات على نظرة تعلمية وذلك ما نرده في بعض المقا مات ذات الطابع التعلمي 7يعتبر السجع خاصية بلاغية ظهرت بكثرةفي جل المقامات البديعية ما يعطينا صورة واضحة على تاثر بديع الزمان الهمذاني بمن سبقوه على غرار الصولي والجاحظ الهوامش: ( ) ابن فارس، مقاييس اللغة، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط1، 1482ه، ص 222، 224. ( ) ابن منظور، لسان العرب (مادة كدا)، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط1، 1985م، ج2/ ص 3838، 3839. ( )صلاح الشهَاوي، شعراء الكدية والصف الثاني في الشعر العربي، دار الثقافة والإعلام، الشارقة، الإمارات، (د ط)، 2013، ص 21. ( )ابن منظور، لسان العرب، مادة كدش، ص 324. ( ) حسين عبد الغني إسماعيل، ظاهرة الكدية في الأدب العربي، نشأتها وخصائصها الفنية، مكتبة الزهراء، القاهرة، مصر، ط1، 1991، ص 22. ( ) أحمد الحسين، أدب الكدية في العصر العباسي، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، سوريا، (د ط)، 2010، ص 17. ( )الجاحظ (أبو عثمان بن بحر)، البخلاء، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط1، 1967، ص 46. ( )المصدر نفسه، ص 46. ( )المصدر نفسه، ص 47. ( )المصدر نفسه، ص 133، 138. ( )المصدر نفسه، ص 134. ( ) عبد الهادي حرب، موسوعة أدب المحتالين، دار التكوين، دمشق، سوريا، (د ط)، 2008، ص 125. ( ) أحمد الحسين، أدب الكدية في العصر العباسي، ص 49. ( ) صلاح الشهاوي، شعراء الكدية والصف الثاني في الشعر العربي، ص 17. ( ) الثعالبي (أبو منصور عبد المالك بن محمد)، يتيمة الدّهر في شعراء أهل العصر، دار الصّاوي، القاهرة، مصر، ط1، 1983، ص 118، 119. ( ) الثعالبي (أبو منصور عبد المالك بن محمد)، ص 117. ( )المصدر نفسه، ص 77. ( ) عبد الهادي حرب، موسوعة أدب المحتالين، ص 41. ( )جلال الخياط، التكسب بالشعر، دار الآداب، بيروت، ط1، 1970، ص 32. ( ) يوسف خلف، الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1، (د ت)، ص 2. ( ) ينظر: صلاح الشهاوي، شعراء الكدية والصف الثاني في الشعر العربي، ص 21. ( )يوسف خلف، الشعراء الصعاليك، ص 327. ( ) الثعالبي، يتيمة الدّهر، ص 35. ( )المصدر نفسه، ص 39. ( ) عبد الهادي حرب ، موسوعة أدب المحتالين، ص105. ( )المرجع نفسه، ص 173. ( ) صلاح الشهاوي، شعراء الكدية والصف الثاني في الشعر العربي، ص111. ( ) الثعالبي ، يتيمة الدهر، ص27. ( )المصدر نفسه، ص 53. ( )المصدر نفسه، ص 65. ( )المصدر نفسه، ص 66. ( )المصدر نفسه، ص 118، 179. ( )المصدر نفسه، ص 66. ( )المصدر نفسه، ص 117. ( ) عبد الهادي حرب، موسوعة أدب المحتالين، ص 195. ( )الثعالبي ، يتيمة الدهر، ص63. ( )عبد الهادي حرب، موسوعة أدب المحتالين، ص 167. ( )الثعالبي ، يتيمة الدهر، ص77. () الميزاقانيون: جمع ميزق وهو المكدي. ()الكاغه: الّذي يدعي الجنون. ( )الثعالبي ، يتيمة الدهر، ص357. ( )داود عطاشة الشوابكة، مصطفى محمد الفار، دراسات أدبية في الفنون النثرية، دار الفكر، عمان، الأردن، ط1، 2009م، ص60. ( )الثعالبي ، يتيمة الدهر، ص257. ( )بديع الزمان الهمذاني، مقامات البديع، تح : محمد الدين عبد الحميد، مكتبة الأزهر، القاهرة، مصر، ط2، (دت)، ص 32. ( )عبد الهادي حرب، موسوعة أدبالمحتالين، ص 458.

الكلمات المفتاحية

ادب الكدية في العصر العباسي