المعيار
Volume 23, Numéro 2, Pages 94-112
2019-03-15

الخطاب الجمالي في القرآن الكريم وأثره في بناء الحضارة والعمران

الكاتب : أولمو فريدة .

الملخص

تتمحور هذه المقالة حول طبيعة الخطاب الجمالي في القرآن الكريم وأثره الإيجابي في بناء الحضارة والعمران وفق ما يتماشى ويتكامل مع النظرة التوحيدية الإيمانية ومقاصد الشريعة الإسلامية الساعية والهادفة للتحقيق المصالح والمنافع العامة للإنسان وإبعاد الضرر والفساد أهمية البحث: و ترجع أهمية هذه الورقة البحثية إلى كونها محاولة لبيان النظرة الشمولية لهذ الدين العظيم، والذي لم يغفل الجانب الجمالي في بِنْيَتِه وتشريعاته، وما أسداه الإسلام من توجيه عظيم للإنسانية لبناء الحياة ونظمها على نوع من الجمال يتفق مع روعة الخَلْقِ والكون، وما خلقه الله عليه من جمال تعجز أمامه عقول البشر وقدراتهم عن الإتيان بمثله، قال الله سبحانه وتعالى:"أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)"( ق:06-11). وقال تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم : " فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)( عبس:24-32). ونلمس في عديد السور والآيات القرآنية دعوة الله جلا جلاله إلى التأمل والتمعن والتدبر في هذا الكون العجيب ، إن إدراك الجمال والانتباه إليه مطلب إسلامي، ونعمة تستحق الشكر،فلم تأت الأوامر الإلهية كلها بطلب العبادة والذكر وترك ما جُبل عليه الإنسان من أشواق روحية وتطلعات نفسية ورغبات إنسانية، بل جاءت الأوامر بإمعان النظر للتمتع بالكون وجماله وربط ذلك بأعظم رباط وأوثقه وهو رباط العقيدة عندما جعل الجمال صفة للخالق يحبها، ويحب مَنْ يتمثَّلُهَا، وذلك في قول النبي –صلى الله عليه وسلم:"إن الله جميل يحب الجمال" ،ويتضح هذا الأمر في إشارة القرآن الكريم ولفته الانتباه إلى جمال الأنعام في منظرها البديع عندما ترجع إلى أصحابها من الرعي حاملة الخير لهم بسِمَنِها وألبانها وعندما تنساح في الأرض راسمة أبدع الصور على ساحة واسعة من الأرض ساعة رعيها،إنه الجمال الذي يجذب النظر و يسلب اللب ويدهش الفكر، قال تعالى: " وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ "(النحل:6)،وفي تفسيرها وتوضيح معنى الجمال يقول الزمخشري: "مَنّ الله بالتَجَمُّل بها كما منّ بالانتفاع بها، لأنه من أغراض أصحاب المواشي، بل هو من معاظمها، لأن الرعيان إذا روحوها بالعشي وسرحوها بالغداة - فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء آنست أهلها وفرَّحت أربابها، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وأكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس". فجمال البيئة والمحيط مرهون بالمصلحة العامة للبلاد والعباد،وقد وصفها عز وجل بقوله :" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)( فاطر الآية: 27 – 28) وكذلك قوله تعالى :" {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين}(الحجر:16) ، وإذا لاحظنا تفسير هذه الآية وما شابههما نكتشف سر لفظة "الزينة" والتي ذكرت في القرآن الكريم 46مرة ، كما فصل فيها القرآن الكريم حيث بلغت عددها إلى خمس وعشرين موضعا في القرآن استدلالا على القضايا والمعاني المادية في الكون والوجود، تسعة عشر منها في الاستعمال الإسمي وستة في الإستعمال الفعلي فهل هذا التكرار وهذه المواضع الكثيرة جاءت هكذا صدفة أم عبثا ؟،أم ذكرت هذه الأسماء والأفعال لغاية أرادها الله وتنبيها للعباد وللعبرة والاعتبار ؟ الإشكال :إلى أي مدى يتوافق الخطاب الجمالي ومقاصد الشريعة الإسلامية في النص القرآني؟ وهل يتحقق هذا التوافق عمليا وماديا مما يؤدي إلى التطور العمراني والحضاري؟ وهل يمكن أن يكون للنص الجمالي تأثيرا فعليا وإيجابيا في ضبط السلوك البشري والحفاظ على الكرامة الإنسانية الإسلامية؟ إن حديث الإسلام عن الجمال ليس حديث الترف الفكري، ولكنه حديث عن طبيعة البناء والتصميم، وعندما يُصَنِّفُ علماء الإسلام الجمال ضمن الكماليات من حيث الاحتياج للمسلم، فإن هذا لا يتأتى إلا بعد استكمال الضرورات والحاجيات، وهذه هي النظرة الشاملة لهذا الدين، ومن الأمثلة على أن الجمال موجود في بِنْيَة هذا الدين النظر إلى العلاقة بين الخالق والمخلوق، بين المسَخِّرِ والمُسَخَّرِ والمُسَخَّرِ له، وكيف يبدو التناغم بين الإرادة الإلهية العليا، والإرادة الكسبية للإنسان؛ لتُخرج لنا الإنسان المكلف في صورة مشرقة تُظهر قدرة الله وسطوته، وتكريم الإنسان وإرادته، والكون البديع وروعته وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا البحث المتواضع. أهداف البحث: وعليه تهدف هذه الورقة إلى الجمع بين النظرة الجمالية في القرآن الكريم وبين مقاصد الشريعة من حيث الممارسة والتطبيق العملي في مجال البيئة والعمران والسعي إلى تحقيق الذوق والحس الجمالي الذوقي في البناء والتشييد والرقي العمراني توافقا مع أحكام الشريعة التي جاءت لتحقيق مصالح العباد إذ تكمن غايتها في تحقيق الكليات الضروريات الخمس: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ العرض ، حفظ المال، وتحقيق هذه الضروريات يحدث أثرا مهما في خلق بيئة سليمة تحقق الخلافة التي خلق الله الإنسان لأجلها. - فإذا اتفقت النظرة الجمالية التي تتأسس في الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا مع مقاصد القرآن في حفظ كرامة الإنسان تحقق الرقي الحضاري والعمراني في البلاد الإسلامية؛ فمن جمال المعتقد، ألا ينحط ذوق الإنسان فيخضع لمخلوق عاجز بدلاً من أن يؤمن برب قوي ظاهر، ففي هذا الاتجاه فساد الفكر وانحطاط التصور، وتلك بشاعة تأباها الفطرة النقية والذوق السليم في تأملنا وتدبرنا وسعينا لتحقيق الرخاء، والتمدن والتحضر. -كما تهدف إلى الدفاع عن الشريعة الإسلامية وإلى القرآن الكريم و إلى لفت الأنظار إلى جمال الصنعة الإلهية وإبداعها مدعاةٌ للفكر فيها، وإرشادٌ إلى مبدعها، والحث على الاعتراف به وبقدرته، وقد ضرب القرآن الكريم أمثلة كثيرة من أجل تحقيق هذا الهدف السامي ومنها قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(سورة لقمان:10) -يُعد الارتقاء بإنسانية الإنسان وذوقه من أهداف الجمال في الإسلام، ويتأتى ذلك بتربية المسلم تربية جمالية تعمل على "تكوين الإنسان العابد الصالح من جميع جوانبه ومنها الجانب الجمالي،وإدراك العلاقات بين الكائنات أو الخلائق بعضها البعض، والتمييز بين الأشكال والأحجام والألوان والطعوم والروائح والمسموعات،واستغلال الإمكانيات البشرية في الإنسان لكي تجعل منه إنسانًا متميزًا عن طريق تنمية تذوقه. وإنماء عاطفة الجمال الكامنة في نفسه،وتنمية قدرته على تقدير الجمال،فتنشئة الفرد على التذوق والجمال ضرورة عصرية تسعى الأمم المتقدمة لتثقيف أبنائها عليها من أجل الأخذ بأسباب الحضارة. " منهجية البحث :اعتمدنا على القراءة التحليلية الاستقرائية للآيات القرآنية الداعية إلى التأمل الجمالي الهادف إلى نشر رسالة التوحيد وبهذا فقد اعتمدنا على المنهج التحليلي الوصفي، وعلى تقنية تحليل المضمون والمنهج المقارن للاستئناس والاستدلال أحيانا أخرى.

الكلمات المفتاحية

القرآن؛ الخطاب الجمالي؛ الحضارة ؛ العمران.