لغة كلام
Volume 5, Numéro 1, Pages 136-146
2019-01-18

تمظهرات أنساق تشكل الصور في بيانات عبد الوهاب البياتي .

الكاتب : بلخوجة عبدالعزيز .

الملخص

تمظهرات أنساق تشكل الصور في بيانات عبد الوهاب البياتي . أ:بلخوجة عبدالعزيز. جامعة عبدالحميد بن باديس- مستغانم. الملخص: شكلت الصورة الشعرية في توظيفها في الإبداع الشعري سرا من أسرار العملية الشعرية ،فمن خلالها يفتح الشاعر نافذته ليبوح بمشاعره، التي تتداخل معها التجارب الإنسانية، وقد حظيت الصورة الشعرية عند البياتي باهتمام كبير شأنها شأن اللغة والإيقاع، وكان الخيال أهم مصادر الصورة عنده، ومن خلالها قدم أشكالا جديدة جسدت الرؤيا التي تخترق كل ما هو مألوف. Resumé. The poetic image in the use of creativity in the price is a secret of the mysteries of the poetic process, through which the poet opens his window to express his feelings, which overlaps with the human experiences. The image of poetry in al-Bayati has received great interest, like language and rhythm, imagination was the most important sources of the image, He introduced new forms that embodied the vision that penetrates everything that is familiar الكلمات المفتاحية: الصورة الشعرية؛ الخيال؛ التصوير الرؤيا, تحتل الصورة أهمية كبيرة في النص الشعري، فالشعــــــــــر لا يقـــــــــوم إلا على عناصر أساسية تتمثل في اللغة و الإيقاع الموسيقي و الصورة ، وقـــــــــــد حظيت الأخيــــــــرة باهتمــــــام الدرس النقدي كثيرا ،ليس لأنها تعبر عن الإحساس و العاطفة بل لأنها تعبر عــــن حقائق من واقع الإنسان ،يرسمها الشاعر بمخيلته، فهــــــــي تحتل الجــــــــــزء المهم فـــــــــي بنية القصيدة باعتبارها الشكل الذي تتجلى فيه عبقرية الشاعر و تجربته مـــــــــــــــــــن خلال الصـــــــوغ اللساني الخاص الذي ينقل المعاني و الأفكار إلى صور مرئية معبــــــــــــــــرة بالاعتمــــــــــاد على صيغ إيحائية مميزة ، ترسم المشهد بما فيه من تناقضات ، و هذا ما يمكن الشاعـــــــــــــر مــــــن نقل مشاعره و أفكاره وعواطفه للمتلقين بأسلوب حسي معتمدا على الخيال الذي يجعل المتلقي يسبح في عالم الشاعر المطلق . إن مفهوم الصورة من المفاهيم التي حظيت باهتمام كبير، سواء في الدراسات النقدية القديمة أو الحديثة، معتبرين الصورة ركنا مهما في العمل الشعري، والوسيلة المهمة في إخراج تجربة الشاعر الإبداعية إلى الوجود ، و لكن التحديد الدقيق لهذا المفهوم أحيط بالكثير من الغموض و التعميم و هو الأمر الذي دفع الباحثين و النقاد إلى اعتبار أي محاولة لإيجاد تحديد ثابت غير منطقية ،إن لم تكن ضربا من المحال ، و لم يقتصر الاختلاف حول مفهومها بل يطال تأصيلها و تتبع تطورها ، و هذا ما يؤكد عليه الدارسون في أصالة مفهوم الصورة، و تجذره في التراث كما ينفي البعض هذا الرأي ويعتبرون الصورة مصطلحا وافدا من الحضارة الغربية . هذا و يذهب "بروتون" إلى أن الصورة إبداع خالص للذهن ، إذ لا تنتج عن طريق المقارنة فقط ، بل من خلال الجمع و التقريب بين واقعتين متفاوتين أو متباعدتين ، وكلما كانت العلاقة بينهم بعيدة وخفية كلما كانت الصورة قوية و مؤثرة في المتلقي بجعله ينفعل معها و يتجاوب ، هنا يتحقق الشعر و هذا الإبداع الذهني يقدم الواقع ليس كما هو ، إنما يقدمه بطريقة مختلفة من خلال سحر و جمال تلك الصورة التي هي غير واقعية و إن كانت مستمدة من الواقع لأنها تنتمي إلى الوجدان ، وعلى هذا يصبح الشعر مجرد تصوير ، و اقتران الشعر بالتصوير قديم جدا ،فالإنسان منذ وعي نفسه مال إلى التصوير،ليعبر عن مكنوناته و قد انتبه الأدباء منذ القديم لهذه الناحية ،فأفلاطون ذهب إلى أن الصور التي يعرضها الشاعر و الرسام على الناس هي التي تأخذ بألبابهم و جاء أرسطو من بعده ليقول أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر بدون صور، و أن أعظم شيء يملكه الشاعر هو امتلاكه المجاز، فأعلى كل منهما من قيمة الصورة حتى اعتبرها الأول أساسا للتفريق بين أنواع الشعر ، و اعتبرها الثاني أساسا للتفريق ما بين الشعر و النثر. إن النص الشعري لا يكون شعرا إلا بالصورة، إذ تعتبر البنية المركزية له ، وروحه وجوهره الثابث وجسده، إنها جوهر الوجود وسر عظمة الشعر ،فغياب الصورة في الشعر يعني أن الشعر ما هو متداول و مألوف من المعاني التي تقف على الدلالة المباشرة ، فالصورة أكبر عون على تقدير الوحدة الشعرية لاعتبارها معلما من معالم النص الشعري ، وكشف المعاني العميقة التي ترمز إليها القصيدة ، و التي تعبر عن علاقة الشاعر بالواقع و إذا كانت الصورة تحتل مثل هذه المكانة في الشعر ،فإنه من الطبيعي أن تعد مقياس الموهبة الشعرية و الشاعرية الفذة، و الحكم على الشاعر العظيم إنما يقوم على أصالة استعاراته و قوتها، فموهبته تتمثل في قدرة التفكير و الابتكار المجازي، لأجل ذلك كانت الصورة مصدرا للخلق خاصة في مجال الدلالة داخل اللغة الشعرية، حتى يتعايش الشاعر مع الواقع ، و تميز كل شاعر عن أخر كما أن طريقة استخدامها هي التي يختلف فيها الشعر الحديث عن القديم ، وهي عنان الشاعرية الحقة . على الرغم من أن مصطلح الصورة و خاصة الصورة الشعرية the poetic imageقد وفد إلينا من الأخر، فإن قسما كبيرا من مكوناته متوافرة في تراثنا النقدي والبلاغي، فالنقاد العرب القدامى لم يستخدموا مصطلح الصورة الفنية أو الأدبية أو البلاغية أو البيانية في معظم كتاباتهم التي وصلت إلينا ، و قد حاول الكثير من الباحثين المحدثين من العرب تتبع جذورها ، فكانت تلك المحاولات بمثابة دراسات تأصيلية أتمر الكثير من الآراء فتلمسوا هذه الجذور من خلال مدلول عبارات أولئك النقاد و تحديد بدء الاستخدام للكلمة أو إحدى مفرداتها أو مشتقاتها ،فوصلوا إلى أن الجاحظ أول من استخدم هذه الكلمة في نقد الشعر من خلال قوله " الشعر صناعة و ضرب من النسيج وجنس من التصوير " فالشعر عنده من جنس الفنون التصويرية كالرسم و النقش ، وغيرها من الفنون الحسية ،فالتصوير في الشعر يشبه التصوير في الرسم ، مع اختلاف ظاهر في الأدوات المستخدمة في كل منهما فالرسام يصور باللون و الشاعر يصور بالكلمة . نبه الجاحظ في معرض إثباته لموقفه من قضية اللفظ و المعنى إلى أن المعول والمعتمد عليه في الشعر أشياء أخرى غير المعاني التي تشتمل عليها الأبيات الشعرية ، لأن الشاعر يهمه إقامة الوزن و تخير الألفاظ و سهولة المخرج و كثرة الماء مع جودة السبك و صحة الطبع ،و هذا التصوير الذي قال به الجاحظ يؤدي إلى الأسلوب الشعري الذي يقوم على إثارة الانفعال ، و استمالة المتلقي بكيفية خاصة في صياغة الأفكار والمعاني ، و تقديمها بطريقة حسية تقترب من مفهوم التجسيم بشكل يجعل الشعر قريبا من الرسم مشابها له في الصياغة و التشكيل، و مختلفا عنه في المادة و التعامل ، فالجاحظ يمثل سبقا في طرح فكرة الجانب الحسي للشعر في النقد العربي ، ومدى قدرة ذلك على إثارة صورة بصرية في ذهن المتلقي . الظاهر أن فكرة التناظر و الربط بين الشعر و الفنون الحسية الأخرى التي تعتمد على التصوير كالرسم قد استبدت بأذهان النقاد في زمن ما بعد الجاحظ ،فـ"عبد القاهر الجرجاني" اتضحت في أقواله معالم الصورة عندما يقول " و إنا نعلم أن المشاهدة تؤثر في النفوس مع العلم بصدق الخبر " مشيرا إلى أنماط الصورة و خصائصها ووظيفتها ، متحدثا عن الوسائل الواجب توفرها في الشاعر حتى يؤثر في المتلقي من بينها الاعتماد على تقديم المحسوسات ،معطيا للصورة رؤية متكاملة فهي عنده تختلف عن الشيء مع بقائها ميزة له سواء على مستوى الشكل أو المضمون المتداخلين ، و هي " تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا .....فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة ، فكان بين إنسان من إنسان و فرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك و كذلك كان الأمر في المصنوعات ، فكان بين خاتم من خاتم و سوار من سوار بذلك ، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البين و بينه في الأخر بينونة في عقولنا و فرقا عبرنا عن ذلك الفرق ، و تلك البينونة بأن قلنا للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك ، و ليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن إبتدأناه فينكره منكر ، فهو مستعمل مشهور في كلام العلماء ." بهذا يكون الجرجاني وسع من دلالات الصورة ، و بلغ معه هذا المصطلح أبعادا لم يصلها عند غيره ، حتى تم الاعتقاد بأن الصورة تحدد الشعر و تعرفه ، و يلح الجرجاني على مصطلح التصوير و يعمل على ربطه بنظريته في النظم مؤكدا على أهميته في صناعة الشعر حتى يبدو أن الجرجاني يؤمن بأن الصورة هي أساس الشعر فكان مصطلح الصورة عند المتقدمين مختصرا في أنواع الصورة البيانية التشبيهية و المجازية و الكنائية ، وهذا ما أشار إليه الكثير من النقاد المحدثين إذ اعتبر "د/نصرت عبد الرحمن "أن علم البيان من المصطلحات الموروثة التي تقترب من مدلول الصورة ، وذهب "علي البطل "إلى أن مفهوم الصورة في الشعر العربي عند القدماء كانت تتخذ مفهوم الصورة البلاغية المتمثلة في التشبيه و الاستعارة و المجاز ، لذلك لا يمكن أن نعثر على تعريف نقدي قديم لمصطلح الصورة ، لأنه لم يتبلور إلا في النقد الحديث ، حيث لم تعد الصورة البلاغية وحدها المقصودة بالمصطلح ، بل قد تخلو الصورة بالمعنى الحديث من المجاز أصلا ،فقد تتكون عبارات حقيقية الاستعمال ، و مع ذلك فهي تشكل صورة ذات خيال خصب . إن الباحث عن طبيعة الصورة يقف أمام تصورات عديدة ، و تحديدات متنوعة تتفق و الموقف الذي يتخذه المبدع ، و قد تطور مفهوم مصطلح الصورة الشعرية في النقد الحديث متجاوزا ما كان قديما الذي قصرها على الصورة البلاغية من تشبيه ومجاز، فالنقد الحديث أضاف نوعين من الصور تمثلت في الصور الذهنية و الصورة باعتبارها رمــــــزا و هذا يشير إلى أهمية الصورة الشعرية في النتاج الشعري مع اتسامها في الوقت نفسه بالغموض و الاضطراب و التداخل ،فإذا كانت الصورة هي الثابت في الشعر و كل شعر إنما في ذاته صورة فإن كل كلمة في هذا تكتسب قوة غامضة وتأثيرا يصعب تحديـــــــــــــــــــده و تعينه باعتبارها تمثل جوهر التجربة الشعرية للشاعر و رؤياه الخاصة، و تعدد الصور يأتي ليبين عمق الرؤيا و ثراء التجربة الشعرية ، و يذهب الشاعر الأمريكي "إزرباوند" إلى أن الصورة هي" تلك التي تقدم تركيبة عقلية و عاطفية في لحظة من الزمن " ليكون بذلك الشعر مجرد تصوير ناطق اذ لايمكن فصل الصورة الشعرية عن اللغة لأنها تنبتق منها و تمثل قدرة الشاعر في تحويل الصور الذهنية إلى مدرك ،بأن تغوص في أعماق التجربة ، و كل صور شعرية إنتاج جديد لعلاقات جديدة بطريقة جديدة في التعبير، تمكن من نقل ما هو عقلي و عاطفي غير ظاهر إلى الحسية إذا أنها تمثل كيانا نفسيا و تركيبا لغويا منسجمان وهو ما يجعل القارئ يتأمل كثيرا لأنها جوهــــــر الشعـــــــــــــر و روحه و بين وضوحها و جلائها من جهة و تأثيرها من جهة علاقة عكسية . و يبدو أن هذا التنوع و الغموض ينتج من تعدد التجارب الشعورية و تباينها ، وعندها يمكن تصور العدد الكبير من التجارب الشعرية ،فالصورة الشعرية التي أنتجت على مر العصور متغيرة من عصر إلى أخر و من شخص إلى أخر ، لأن التجربة الشعرية هي التي تستدعي لغتها الخاصة ، و تدفع الشاعر إلى تشكيلها بطريقة معينة ، تتكون الصورة الشعرية فيها وفق الفكرة المسيطرة و الشعور يوجهها ،فالتجربة الجديدة تبتكر لغتها الجديدة و اللغة خلق دائم فما عبر عنه لن يتكرر مطلقا ، و تستمد الصورة الشعرية أهميتها مما تمثله من قيم إبداعية و ذوقية و تعبير ناقل للتجربة و مجسد لها ، فهي بالتالي رسم يعتمد على الكلمات المشحونة بالإحساس و العاطفة ، فمن خصائص الشعر مادته التصويرية باعتبار الشاعر لا يعبر عن الحقائق كما هي ، بل يكون تعبيره عن الواقع في شكل أطياف و سراب تؤثر في المتلقي أكثر مما تؤثر تلك الحقائق المباشرة . يقوم مفهوم الحداثة على الصراع و التناقض بين الأفكار و المعاني أو الجمع بينهما، ومنه تتشكل الصورة على أساس من الخيال لتغير العلاقات السائدة علاقة الشاعر بالعالم الذي حوله ، و للشاعر طرائقه و أساليبه في تقديم الرؤيا الخاصة به ، وغايته أن يعبر عن الواقع و يبرزه في شكل فني ، مبينا موقفا شعريا يظهر حساسية الشاعر من الواقع لأنه يعبر بشعوره ، و الرؤيا ككل تنطلق من الوجدان و الشعر " لا يعطي رأيا، وإنما يشكل رؤية و لا يعكس محاكاة مباشرة للواقع و إنما موازاة له ، و معادلا موضوعيا لكل ما ينفعل به الفنان ". فالذي يميز الصورة الشعرية و يعطي لها فاعليتها ليس حيويتها كصورة ، بل لأنها تمثل حادثة مميزة من الواقع ترتبط بمشاعر الشاعر ، لتحتل بذلك مكانة مهمة في تكوين شعرية النص لقدرتها على حمل اللغة بالدلالات العميقة التي لا تكتفي بما تضبطه البلاغة، فتلك الصورة الشعرية لم تعد قادرة على التعبير عن الواقع المعقد لأنها في الأصل تتطابق مع الواقع الخارجي دون الاهتمام بالمنطق الداخلي للواقع و المتمثل في حركة النفس التي تحاول بناء علائق غير محدودة بين الأشياء ، فمن خلال الصورة الشعرية التي أصبحت سمة للشعر الحديث يستطيع الشاعر أن يجسد فكرته باستقطاب المتلقي و صهره في التجربة الشعرية لينفعل معها ، إذ أنها تمدها بطاقات تعبيرية تشحن السياقات ، مانحة للمتلقي دلالات تبرز من خلال النسق الدلالي والمفهومي ، بكشف ما هو كامن في الوجدان و الذي يكون التجربة الخاصة ، و التي يجمع بينها الخيال . يشير معظم النقاد و الدارسين و حتى الشعراء إلى علاقة الصورة بالخيال و الذي يتجلى في القدرة على تكوين صورة ذهنية لأشياء غابت عن الحس ، فالصورة وثيقة الاتصال بالخيال و تتداخل معه لتكون مشحونة بالتصوير ، فالخيال له وظيفته المهمة والصورة دونه لا تكتمل مهما كانت قدرات الشاعر ، فمصادر الصورة الشعرية " أبرزها الخيال و الواقع بنوعيه الحسي و الذهني ، وما يتعلق بهما من مؤثرات تتجانس في الصورة و تمتزج امتزاجا جدليا ....و الأساس الأخر أن هذه التأثيرات تتجلى في طرائق صياغة الصورة و براعة الشاعر في انتقاء موضوعه و إضفاء فنية متفردة عليه و تقديمه على نحو خاص يتحد فيه الشكل و المضمون ".فأي مفهوم للصورة الشعرية لا يمكن أن يقوم إلا على أساس مفهوم الخيال ، و لا تنحصر فاعليته الخيال في مجرد الاستفادة الآلية لمدركات حسية ترتبط بزمان أو مكان بعينه ، بل تمتد فاعليتها إلى ماهو أبعد من ذلك ، فتعيد تشكيل المدركات وتبني منها عالما متميزا من خلال الجمع بين الأشياء المتنافرة و العناصر المتباعدة في علاقات فريدة تجعلها منسجة ومتوافقة ، ومن هنا يتجلى الخيال في القدرة على إيجاد التناغم بين كل العناصر المكونة للتجربة الشعرية للشاعر . إن الخيال عند الشاعر يعبر عن النضج العالي لكافة مدركات المبدع المختزنة التي نسيها الذهن ، و انشغل عنها و لكنها فجأة تطفو إلى سطح الذاكرة و تسيطر على جوانب التفكير،متحولة إلى فكرة تدفع الشاعر إلى التعبير عنها بمجرد دخول مثير ما فحين تدور في " ضمير الشاعر فكرة تلح عليه مصحوبة بعاطفة قوية ، فإنه يتدفع للتعبير عنها ، هذه المشاعر التي تضغط عليه ضغطا شديدا فيخفف عن نفسه بنقل إحساسه إلى الآخرين، فيستشير طاقة الخيال ، وهي الطاقة التي تجمع عناصر متفرقة من ذاكرة والعقل ، لتصنع منها صورة" و تلك الصورة تترجــــــم لنا عاطفـــة الشاعـــــــــــــــــر ، و تفصح عنها وهي التي تؤثر فينا ، من خلال تجسيد ذلك الشعور من التجربة الشعرية التي تفاعلت في النفس عبر مرور الأيام و التجارب لتتحول المشاعر إلى كلمات تصويرية معبرة ونجاح الشاعر يظهر في قدرته على نقل المشاعر في صورة غير مسبوقة وجديدة ، تصور مشاعره بعيدا عن البساطة و المباشرة و يكون هذا عندما " تنبثق من إحساس عميق،وشعور مكثف يحاول أن يتجسد في رموز لغوية ذات نسق خاص هو تلقائيا خروج على النسق المعجمي في الدلالة و النسق الوظيفي في التركيب " فالصورة تدخل علاقات جديدة بين الألفاظ و تستحدث استعمالات لغوية غير موجودة ، فـ"محمود عباس العقاد" يربط بين الألفاظ و الخيال و الصورة الشعرية في إطار التعبير ، فيبين أن الألفاظ وزنها و دورها ، و كل هذا يستمد قوته من الخيال باعتباره يساعد في استحضار الصور و الإحاطة و المعرفة الشاملة للواقع كما بإمكانه اختصار الأزمنة و الأمكنة واسترجاع الماضي و تلك الصورة التي يصوغها هي أداة الشاعر في الخلق و البناء لموقفه من الواقع و تشكيل جماليته في النص من خلال الكلمات و العبارات التي تعطي صورة حية إيحائية تكشف الذات و العالم معطية الأسبقية للرؤيا الداخلية للشاعر. تلك أهمية الخيال بالنسبة للصورة الشعرية ،فبدونه تظل مجرد شعور وجداني غامض بغير شكل و لا ملامح ،حتى يتناوله الخيال الخلاق ،فيجمع الأجزاء و يركب ويعدل،و يفعل كل ما من شأنه أن يمكن التجربة من التجسيد ، و يحقق لها التناسق والترابط ، ففي خلق الصورة الشعرية يتعاون الخيال مع اللغة و يمثل الخيال الأساس الذي ينطلق منه الشاعر بعد انفعالاته ، وهذا حتى لا يخلو الشعر من عنصر الخيال ،وإلا أصبح كلاما مبتذرا" فمتى انعدم الخيال يكون الشعر بلا قيمة " كما يتداخل في تشكيل الصورة الشعرية بالإضافة إلى الخيال و الواقع و الحدس و العقل و مركبات غريزية لتبقى الصورة عملا تركيبيا يقوم الخيال ببنائها مع عناصر أخرى وهذه الصورة الشعرية تخلق المعاني و الأفكار المجردة و الواقع خلقا جديدا ، لتظهر في الوجود مستقلة مجسدة هيئة و شكلا جديدا . لقد قدم البياتي أشكالا جديدة و صورا مبتكرة من أجل الوصول إلى ما يجسد رؤياه الخاصة ، باعتا في المتلقي الإحساس بالجمال و الروعة ، و هذا السعي إلى تلك الصور فرض عليه أن يخرق ما هو مألوف ،فصوره كانت تقوم على التشكيل الذي يمثل علاقة الشاعر مع واقعه ،و محاولة تجسيد ما هو مجرد و معنوي بنقله إلى المحسوس في النص الشعري " و يظهر تأثر البياتي و إليوت بالتصوير في تأكيدهما على أهمية الإيحاء والرمز في إبداع الصور" فالبياتي يميل إلى جعل الصورة ممثلة للحركة و الانفعال والخلجات النفسية ،وهذا ما مكن البياتي من مسايرة الحداثة ، إذ جاء إبداعه الشعري مجسدا حداثة الصورة التي خلقها من خلال القفز بعيدا عن موروث اللغة و الصور مستحدثا بذلك صورا تقوم على دلالات جديدة و متجاوزا الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية ،ذاهبا إلى صور تقوم على توسيع مدلول الكلمات من خلال تحريك الخيال واعتماد الرمز و الانزياح للتعبير عن تجاربه الجديدة التي تنقل روح الشاعر المغتربة والحزينة و التي يقتلها القلق و عدم الإحساس بالأمن و الطمأنينة ، فهو لم تعد عنده "القصيدة سلسلة من الومضات السريعة بل هي بناء متكامل ضمن وحدة يحتم على الشاعر أن يبذلا قصارى جهده في دقة عرض أفكاره ، و تنظيمها و إلا أصبحت صورة متنافرة ،متضادة لا ترابط بينها أو هي كومة من صور محطمة ". تميزت صور البياتي في تشكيلها بالحركة الإبداعية التي تظهر في براعته في بنائها ،و سيطرته على لغته الشعرية باستخدام أساليب كثيرة تتوالد فيها الصور صانعة ومكونة صورة كلية ، فالبياتي يصنع صورته و يشكلها من خلال قدرته الكبيرة في اختيار موضوعاته من الطبيعة و الواقع و اختيار الرموز الرائعة من الذاكرة الثقافية والاجتماعية و السياسية ، بالانطلاق من التجربة الشعرية الذاتية اعتمادا على القيم الجمالية التي تؤثر في المتلقي بتوسيع حدود اللغة حتى يتمكن من التعبير عن وجدانه المتصل بالقضايا الإنسانية ، فاستحوذت الصورة الشعرية في أغلب دواوينه على الجمل الشعرية لاتصافها بالشمولية ،حتى نرى أن القصيدة عنده نسيج من الصور التي رسمت رؤى الشاعر "وهكذا كانت أشعاري الأولى محاولة لتصوير هذا الدمار الشامل و العقم الذي كان يسود الأشياء" فاستحضر بذلك البياتي صورا ذهنية لأشياء غابت عـــــــــن الحـــس فكان يعيدها و من خلالها يبني و يشكل الصورة الشعرية في خطابه الشعري . لقد كان خلق " البياتي " للصورة الشعرية في قصائده يعتبر مميزا في تشكيلها بالنسبة للمتخيل، و في لغتها المعاصرة ذات البعد التراثي العميق متخطيا المنهج البلاغي القديم ، للتعبير عن رؤياه المعاصرة ، مخترقا كل الحدود المرئية ليكشف ما لم تسطعه الحواس ،بإنشاء علاقات بين الكلمات و المعاني و الواقع " فالصورة الشعرية التي ترسمها تفهم في السابق على أنها وسيلة الإبانة و الوصف و المحاكاة و الشرح والتوضيح الذي يهدف إلى الإفهام و الإقناع و الاستمالة ...أنها إثارة للمخيلة و محاورتها وتحفيزها على رسم صور ذهنية ذات خصائص حسية متنوعة " فالمشهد الذهني عند البياتي يلعب الخيال فيه دورا مهما في رسمه و بلورته ، وهو ما يظهر في كثير من الصور الجزئية التي كان فيها البياتي بارعا ، و التي اعتمد عليها كثيرا في نقل تجربته و رؤياه فالصورة عند البياتي " أصبحت تمتد و تنداح مترامية حتى لتكاد تشمل القصيدة برمتها فالصورة الشعرية في حالات كثيرة مقصودة ،لما يتخيل فيها من قوة الدلالة بقدر لا تستطعه المفردات أو التراكيب حيث تعدو الدلالات المعهودة في المفردة اللغوية مجرد نقطة انطلاق لدلالات أوسع " فالصورة عنده هي نسيج القصيدة و أساس بنائها . كما أن العالم الذي أحاط بالبياتي و ما فيه من ظروف كان مصدرا من مصادر تشكيل الصورة الشعرية ، هذا واستخدم البياتي كذلك الصور التجريدية عندما كان يشبه المحسوس بالمعقول أو المعقول بالمعقول ، فالمادي يقارنه بفكرة ذهبية شرط أن تكون أكثر وضوحا ، وكذلك كان يعتمد على الصور التشخيصية التي تتخذ من التشخيص وسيلة من وسائل تشكيلها ، و يكون للمعاني المجردة و مظاهر الطبيعة في صور كائنات تتحرك ، وهذا الأسلوب في بناء الصورة الشعرية يجعل المتلقي أكثر تأثــــــــــــــرا و أكثر انفعالا بالقوة السحرية للشعر ، فالشاعر ينفعل من خلال التجربــــــة الشعوريــــــــــــــــــــة ، و المتلقي ينفعل مع القصيدة ، وكذلك الصورة الرمزية التي تقيم نوعا من التوافق في اقتران الصورة بالمجاز باعتمادها على مكونات حسية من حيث أن الصورة " رمز يتأثر بحالة روحية فهي صورة تعبيرية و الشاعر لا يخلق صوره من عدم و إنما يختارها بالاستعانة بالمدركات الحسية المختزنة ، وهو يلجأ إلى الصورة الرمزية بتوجيه من تجربته الشعورية المضطربة التي لا يمكن التعبير عنها إلا بالصورة الرمزية لما فيها مـــــــــــن إيحاء و إيجاز ،و قد لجأ البياتي إلى الصورة الرمزية لأنها تعد نموذجا جديدا في الشعر العربي المعاصر ، حيث فتح للشعر حرية في اللغة و التعبير نتج عنها تطور لتلك الصور التي أصبحت من أهم خصائص البياتي من خلال التعبير الإيحائي ، و استجابتها للاندماج في البنية الشعرية ، و بهذا فالبياتي كان يخلق صورا جديدة بإيجاد علاقات بلاغية جديدة في المجاز و الاستعارة تساير رؤاه الشعرية الحداثية . - أنظر بشرى موسى صالح ، ا لصورة الشعرية في النقد العربي الحديث ، المركز الثقافي العربي ،بيروت ،ط1 ،1994 ،ص 19 . - أنظر محمد علي كندي ، الرمز و القناع في الشعر العربي الحديث (السياب ونازك والبياتي)،ص 18 . - أنظر محمد الولي ، الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي النقدي، المركز الثقافي العربي ، بيروت ،ط1 1990 ،ص 17 . - أنظر وحيد صبحي كبابة ، الصورة الفنية في شعر الطائيين بين الانفعال و الحس ، دراسة ،اتحاد الكتاب العرب ،دمشق ، ( د ط ) ،1999 ،ص 07 . - أنظر وحيد صبحي كبابة ،المرجع نفسه ،ص 08 . - أنظر محمد علي كندي ، الرمز و القناع في الشعر العربي الحديث ،ص 18 . - أنظر زيد بن محمد بن غانم الجهني ،الصورة الفنية في المفضليات (أنماطها و موضوعاتها و مصادرها و سماتها الفنية) ، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ،ط1 ،ج1 ،1425 هـ ،ص 41 . - الجاحظ ، الحيوان تح عبد السلام محمد هارون ،ج3 ،ص 123 . - أنظر زيد بن محمد بن غانم الجهني ،الصورة الفنية في المفضليات ، ص 42 . - أنظر محمد علي كندي، الرمز و القناع في الشعر العربي ،ص 18 . - عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة ،ص 113 . - عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ،المكتبة العصرية ، بيروت ،ط1 2003 ،ص 466 . - أنظر محمد علي كندي ، الرمز و القناع في الشعر العربي الحديث ،ص 19 . -أنظر محمد علي كندي ، المرجع نفسه ،ص 21 . - أنظر زيد بن محمد بن غانم الجهني ،الصورة الفنية في المفضليات ،ص 44-45 . - أنظر علي البطل ، الصورة في الشعر العربي حتى أخر القرن الثاني الهجري ،دار الأندلس ،بيروت ،(د ط) ،1980 ،ص 15 . - عز الدين إسماعيل ، التحليل النفسي للأدب ،ص 63 . - أنظر علي عباس علوان ، تطور الشعر العربي الحديث ، منشورات وزارة الإعلام ، بغداد،ط1 ،1975 ، ،ص 48 . - أنظر محمد علي كندي ،الرمز و القناع في الشعر العربي الحديث ،ص 25 . - أنظر د/ماجد السمرائي ، التيار القومي في الشعر العربي الحديث ( 1939 – 1967 )منشورات وزارة الإعلام – بغداد ( دط) ،1983 – ص 445 - طه وادي ، شعر ناجي الموقف و الأداة ، دار المعارف ، القاهرة ،ط2 – 1982 ،ص 77 . - أنظر رجاء عيد ، دراسات في لغة الشعر ، رؤية نقدية ،منشأة المعارف الإسكندرية ،ط1 ،1998 ،ص 43 . - بشرى موسى صالح ، الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث ، ،ص28. - أنظر جابر عصفور ، الصورة الفنية في التراث التقدي و البلاغي ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ،ط3 ،1992 ،ص 13 . - بشرى موسى صالح ، الصورة الشعرية في النقد الحديث ،ص 29 . - محمد حسين عبدالله ،الصورة الشعرية و البناء الشعري ، دار المعارف ،القاهرة ،(د.ط) ،1981 ،ص 28 . - أنظر مصطفى دراوش ، الموقف النقدي لجماعة الديوان من الشعر العربي ، رسالة ماجستر ، كلية الآداب جامعة بغداد ،1985 ،ص 358 . - أنظر السعيد الورقي ، لغة الشعر العربي الحديث ،دار النهضة العربية ،ط3 ،1974 ،ص 126 . - علي عياس عقاد ، تطور الشعر العربي في العراق ، اتجاهات الرؤيا و جماليات النسيج ،وزارة الإعلام بغداد ،ط1 ،1975 ،ص36. - بشرى موسى صالح ،الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث ،ص 148 . - بشرى موسى صالح ،المرجع نفسه ،ص 149 . - عبد الوهاب البياتي ، تجربتي الشعرية ،ص 20 . - أحمد محمد المعتوق ،اللغة العليا ،ص196 . - علي الشرع ، لغة الشعر العربي المعاصر في النقد العربي الحديث ، منشورات اليرموك ،ط1 ،1991 ،ص 60 . - انظر علي عشري زايدي ، عن بناء القصيدة العربية الحديثة ،دار الفصحى،القاهرة ،( د.ط)1978 ،ص 79 . - انظر عبد العزيز المقالح، الشعر بين الرؤيا و التشكيل ،دار العودة ،بيروت ،1980 ،ص 201 .

الكلمات المفتاحية

الصورة الشعرية؛ الخيال؛ التصوير الرؤيا,